أكبر معمرة مازالت متمسكة بالحياة منذ مائة عام
قد ينتابك العجب
إذا رأيت مظهرها الخارجي الغريب، لكن العجب سيزداد إذا ما سمعت روايات
أصحابها عن عمرها الذي يناهز القرن من الزمن، وكيفية دخولها العراق، حيث
استبدل اسمها الحقيقي باسم مستوحى من شكلها. أنها سيارة الحمل سعة 2 طن من
نوع فورد، والمعروفة باسم "القجمة" التي لا وجود لاسمها الحقيقي "فورد"
إلا على شباك مقدمتها.
يقول أحد أصحاب القجمة لـ"نيوزماتيك" إنها
"دخلت العراق، أول مرة، مع الجيش الانكليزي في الحرب العالمية الثانية،
وكانت تستخدم للأغراض العسكرية، قبل أن تحول إلى الحكومة العراقية، عام
1938، بعد إنهاء خدماتها في الجيش الانكليزي في العراق".
ويضيف جاسم كاظم، 32 سنة، بلهجة ساخرة "إنها مضبوطة لأنها من صنع أبو ناجي"، وهي التسمية التي يطلقها العراقيون على الإنكليز.
ويرى
كاظم أن سبب تسميتها بالقجمة "له علاقة بشكل مقدمة السيارة القصير والذي
يعبر عنه باللهجة الدارجة بكلمة، أقجم، أي مقطوع أو قصير جداً".
سيارة بسبعة أرواح
القجمة
ذات المقود الأيمن والتي كانت تعمل، حصرياً، في النجف والديوانية، جنوب
بغداد، انحصر وجودها في النجف فقط. فبعد أن كان عددها يتجاوز 300 سيارة،
انخفض الآن إلى عشر فقط، "أحدها اشتراها، قبل أيام، المتحف العراقي
للاحتفاظ بها كتحفة تراثية"، كما يقول باسم حسن صاحب سيارة قجمة في النجف.
ويشكو
حسن من عدم وجود قطع غيار لهذه السيارة، لأنها قديمة الصنع، لذلك "لجأنا
إلى التحوير، فكل شيء في هذه السيارة محور تقريباً إلا بدنها الخارجي".
ويضيف
حسن أن "الكثير من الورش الصناعية توجد في الحي الصناعي في النجف، 160 كم
جنوب بغداد، حيث يمكن تركيب أدوات بديلة لها من محرك ومغير السرعة وبقية
أجزائها المهمة، من أنواع سيارات تشبهها، وقد تم تغيير كل محتوياتها الآن
تقريباً، بعد أن كانت بعد كل عطل توشك على الهلاك، فباتت تشبه القطة بسبعة
أرواح".
عمر رسمي وعمر شعبي
ثمة روايتان حول موديل السيارة وسنة
صناعتها؛ الأولى شهودها أصحاب السيارة أنفسهم، والتي ترجع سنة صناعتها إلى
بدايات القرن الماضي، وفقاً لصاحب سيارة قجمة، عادل كاظم، 38 سنة، الذي
يقول إنها "صنعت عام 1910، أي أن عمرها يزيد على القرن بعامين". أما
الرواية الثانية فهي المثبتة، رسميا،ً في أوراق السيارة، فسيارة كاظم
"سجلت، مرورياً، ابتداءً من العام 1940 وحتى العام 1948 من قبل الدوائر
الرسمية العراقية، وهذا هو العمر الرسمي الذي نتحدث عنه حين نسأل عن موديل
السيارة التي مازالت، حتى هذه اللحظة، تواصل العمل".
أم الخبزة
الشكل
الخارجي للسيارة لا يوحي بأنها قوية أو سريعة بما فيه الكفاية، لكن
أصحابها يفاخرون بها السيارات الحديثة، فعادل كاظم يتعامل مع سيارته "كأي
سيارة حديثة"، مؤكداً "يوم أمس سرت بها بسرعة 60 كيلومتراً، وهذه سرعة
ليست عادية بالنسبة لسيارة بعمرها".
وتتمسك بعض الأسر في النجف
بسيارة القجمة وتتوارثها جيلاً عن جيل دون أن تغريهم أشكال السيارات
الحديثة، مثل عائلة عادل كاظم الذي يقول لـ"نيوزماتيك" لقد "ورثت هذه
السيارة عن أبي، ومازلت أعمل فيها منذ 16 عاماً، وقد ورثها أبي عن جدي".
وحاول
كاظم أن يختبر سيارته أمامنا، لكنها لم تكن "مطيعة" فالسيارة رفضت أن
تتحرك دون "دفعة" من السواق الحاضرين، فكان الدخان المنبعث منها يوحي بأنه
"دخان آخر العمر". لكنه يرفض بيعها آو استبدالها بسيارة أخرى قائلا "هاي
أم الخبزة صار لها عمر ويانة، إنها وفية جداً".
تجاعيد الزمن
اللافت
أن سواق القجمة من الشباب متعلقون بها جداً، بالرغم من إغراءات سيارات
الحمل الجديدة، بل بدا بعضهم مستبشراً بفألها "الجميل" على العائلة، لكن
مظهرها الخارجي بدا متعبا، وحركتها وئيدة، والزمن طبع بصماته على بدنها
المتعب، وألوانها فقدت بريقها، بل إن قمرة القيادة تبدو غريبة في سيارة
تمسكت بمقودها الأيمن على النظام الانكليزي، ويقوم بعض السائقين بوضع
"طابوقة" إلى جانب مقعده يستخدمها أثناء السير كي تمنع انفلات مغير السرعة
"الكَير" من مكانه". وحين تنظر إليها تجدها أقرب للسيارات المستخدمة في
مناجم الفحم في الصين، أو في البر الأمريكي مطلع القرن الماضي.
سيارة خارج القانون
بعد
عام 2003 دخلت العراق سيارات حديثة بمقود أيمن، إلا إن دوائر المرور رفضت
تسجيلها ما لم "تحور" إلى مقود أيسر، لكن هذا القانون استثنى القجمة مثلما
استثنيت من شرط حزام الأمان الذي يطبق بشكل واسع هذه الأيام في العراق.
ومازالت القجمة تصول وتجول في شوارع النجف بعيداً عن فواتير الغرامات التي يفرضها شرطي المرور على بقية السيارات.
يقول
زهير كاظم، 48 عاماً، ضاحكاً إن "رجال المرور لا يحاسبوننا على المقود
الأيمن ولا على حزام الأمان، وهذه ميزة لم تمنح سوى للقجمة"، التي يرى
أنها "مازالت شابة وتشق الأرض شقاً، ولكن رجال المرور يقدرون عددها القليل
والمحدود في العراق".
وكانت القجمة تعمل في كافة المجالات، أما
الآن فتبدو مختصة بنقل الجص من المعامل الواقعة على أطراف المدينة، وفقا
لما يقوله صحاب سيارة قجمة لـ"نيوزماتيك" الذي يضيف "نعمل الآن في الجص
فقط، وقد نقوم بنقل بعض المواد، أحياناً، كالطابوق والتراب عند الطلب".
وقد
أثرت حمولة القجمة القليلة التي لا تتجاوز طنين على عملها وإقبال الناس
عليها، فالبناء يتطلب كميات كبيرة من الطابوق والرمل والجص ومواد البناء
الأخرى، وهي خدمة لا توفرها حمولة القجمة المحدودة، لكنها مازالت مرغوبة
لمن يريدون الترميم، وليس البناء، فهم يحتاجون، في الغالب، إلى كمية قليلة
توفرها لهم القجمة.
مصائب قوم
سعر سيارة القجمة اليوم لا
يقدره أصحابها بثمن، ويقول أحد أصحابها "اشتريناها منذ زمن بعيد، وكانت
قيمة السيارة، آنذاك، تحسب بالدنانير أما الآن فتحسب بالملايين". بينما
يؤكد سواق آخرون أن سعرها زهيد جداً ولا يجازف أحد بشرائها للعمل عليها.
لكن
مالكي سيارات القجمة متفائلون بالفرج الذي جاءهم من قرار حكومي يمنع
استيراد سيارات أقل من موديل 2006 شريطة أن يصاحب تسجيل كل سيارة حديثة
تسقيط سيارة قديمة، فرفع هذا القرار أسعار السيارات القديمة إلى أكثر من
2000 دولار، وهو ما لم يكن يحلم به أصحاب سيارات كالقجمة التي تودع عمرها
الآن
شاهد الصور
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]